أحوال العبد بالنسبة إلى الرزق
صفحة 1 من اصل 1
أحوال العبد بالنسبة إلى الرزق
أحوال العبد بالنسبة إلى الرزق
فصل: واعلم انه يرد في شأن الرزق أمور ويعرض فيه عوارض وقد ذكر الشيخ رحمه الله تعالى كثيرا منها بقوله:
{وسخر لي أمر هذا الرزق، واعصمني من الحرص والتعب في طلبه، ومن شغل القلب وتعلق الهم به، ومن الذل للخلق بسببه، ومن التفكير والتدبير في تحصيله، ومن الشح والبخل بعد حصوله.
وليس العوارض الواردة في شأن الرزق بمنحصرة حتى تستوفى فلنتكلم على ما قاله الشيخ رحمه الله:
فالعم أن للعبد بالنسبة إلى الرزق، ثلاثة أحوال:
حال قبل أن يرزقه، وهي حالة السعي.
وحال بعد ذلك، وهي حالة الحصول.
وحال بعد انقضائه، وهي الحالة الثالثة.
فأما ما يعرض قبل حصوله: فالحرص والتعب في طلبه، وشغل القلب وتعلق الهم به، والذل للخلق بسببه، والتكفير والتدبير في تحصيله.
فأما الحرص: فهو الرغبة القائمة بالنفس في التحصيل له، والانكباب على ذلك، وهو ينشأ عن فقدان الثقة، وضعف اليقين: وهما ناشئان عن فقدان النور، وفقدان النور ناشئ عن وجود الحجبة.
إذ لو كان القلب بأنوار المشاهدة معمورا، وبمنن الله مغمورا لم تطرقه طوارق الحرص ولو انبسط نور اليقين على القلب لكشف له عن سابق القسمة فلم يمكنه الحرص، وعلم العبد أن له عند الله قسمة لا بد أن يوصلها إليه.
وأما التعب في طلبه: فأما أن يكون تعب الظواهر ويكون الاستعاذة منه إلى الله تعالى لأنه إذا استولى على الطالب للرزق التعب في الظاهر شغله ذلك عن القيام بالأوامر.
والرزق مع الراحة فيه إعانة على التفرغ إلى طاعة الله تعالى والقيام بخدمته.
وان كان التعب هو تعب القلوب لا تعب الظواهر في أولى بان يستعاذ منه وذلك بان القلوب يتعبها تكلفها في طلب الرزق والفكرة فيه ويثقلها ما حملت من ذلك ولا راحة لها إلا بالتوكل على الله.
لان التوكل على الله وضع أثقاله والله تعالى يحملها عنه لقوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه: (ومن شغل القلب وتعلق الهمم به).
فشغل القلب بأمر الرزق قاطع عظيم حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
(أكثر ما حجب الخلق عن الله تعالى شيئان:
هم الرزق وخوف الخلق.
وهم الرزق اشد الحجابين وذلك: أن أكثر الناس قد يخلوا من هم خوف الخلق ولا يخلو من هم الرزق إلا قليل لا سيما وشاهد الفاقة قائم بوجودك وأنت مفتقر إلى ما يقيم بنيتك ويشد قوتك.
قوله: وتعلق الهم به أي تعلق الهمة بأمر الرزق توجها واستغراقا حتى لا يبقى فيه متسع لغيره، وهذه حالة توجب القطيعة وتكشف أنوار الوصلة تنادي على صاحبها بخراب قلبه من نور اليقين وفلسفة من القوة والتمكين.
وقوله: ومن الذل للخلق بسببه: فاعلم أن من ضعف يقينه، وقل من قسمة العقل نصيبه فالذلة لازمة له: لطمعه في الخلق، ولعدم ثقته بصدق وعد، فذل للخلق متملقا ولج إليها متعلقا، وذلك عقوبتها الغفلة عن الله تعالى، ولعذاب الآخرة اشد.
ولو صح إيمانه وثقته بالله كان لذلك عزيزا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
فعزة المؤمن بربه لا يعتز بغيره لعلمه أن العزة لله جميعا وانه العزيز فلا عزيز معه والمعز فلا معز معه، فأعزته الثقة ونصره التوكل فلن يهن لصدق ثقته بربه في قسمته، ولم يحزن لاعتماده عليه في وجود منته سامعا قوله تعالى:
{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون أن كنتم مؤمنين}.
فعزة المؤمن بترك الطمع في الخلق، ووجود الثقة بالملك الحق أبى له إيمانه أن يرفع حاجته لغير ربه أو أن يصرف لما سواه قلبه ولذلك قال بعضهم:
حرام على من وحد الله ربه *** وافرده أن يجتدي أحدا رفدا
ويا صاحبي قف لي مع الحق وقفة *** أموت بها وجدا وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها*** فهذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
ومن حرره الله من رق الطمع، وأعزه بوجود الورع فقد أجزل منته، وكمل عليه همته.
واعلم أن الله قد كساك أيها المؤمن خلعا عديدة منها:
خلعة الإيمان والمعرفة والطاعة والسنة فلا تدنسها بالطمع في المخلوقين، وبالاستناد إلى غير رب العالمين.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فقال لي:
يا علي، طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس.
فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ فقال: اعلم أن الله تعالى كساك حلة الإيمان وحلة المعرفة، وحلة التوحيد وحلة المحبة.
قال: ففهمت حينئذ قوله تعالى: {وثيابك فطهر}.
فمن عرف الله صغر لديه كل شيء ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئا ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن اسلم لله قل ما يعصيه، وان عصاه اعتذر إليه، وان اعتذر إليه قبل عذره.
واعلم رحمك الله أن رفع الهمة بسالكي طريقي الآخرة عن الخلق وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحلي للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس.
ومن خلعت عليه خلعة فحفظها وصانها، فحري أن تدام له، وان لا تسلب عنه.
والمدنس لخلع المواهب فحري أن لا تترك له.
فلا تدنس أيها الأخ إيمانك بطمعك في المخلوقين، ولا تجعلن اعتمادك إلا على رب العالمين، فان اعتززت بالله دام بدوام من اعتززت به وان اعتززت بغيره فلا بقاء لعزك إذ لا بقاء لمن أنت به معتز وأنشد لي بعض الفضلاء لنفسه:
ليكن بربك كل عزك *** يستقر ويثبت
فان اعتززت بمن يموت *** فان عزك ميت
ودخل إنسان على بعض العارفين وهو يبكي فقال: ما شأنك؟ قال: مات أستاذي.
فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟
ويقال لك: إذا اعتززت بغير الله فقدته، وإذا استندت إلى غيره عدمته.
{وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا اله إلا هو وسع كل شيء علما}. وكن أيها العبد إبراهيميا فقد فال أبوك إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه {لا أحب الآفلين} وما سوى الله تعالى آفل إما وجودا وإما إمكانا.
وقد قال الله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم.
وملة إبراهيم، رفع الهمة عن الخلق، فانه يوم زج به في المنجنيق، تعرض له جبرائيل عليه السلام، فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى. قال: سله؟ قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
فانظر كيف رفع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه همته عن الخلق، ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبرائيل، ولا احتال على السؤال من الله تعالى، بل رأى الحق اقرب إليه جبرائيل ومن سؤاله فلذلك سلمه من النمرود ونكاله، وأنعم إليه بنواله وأفضاله وخصه بوجود إقباله.
ومن ملة إبراهيم، معاداة كل ما شغل عن الله، وصرف الهمة بالرد إلى الله تعالى لقوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.
والغنى أن أردت الدلالة عليه، فهو في اليأس في من الناس، ولقد قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
أيست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا أيأس من نفع غيري لنفسي؟ ورجوت لغيري؟ فكيف لا أرجوه لنفسي؟
وهذا هو الكيمياء والإكسير الذي من حصل له غنى لا فاقة فيه، وعزل لا ذل معه، واتفاق لا نفاد له، وهو كيمياء أهل الفهم عن الله تعالى.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: صحبني إنسان وكان ثقيلا علي فبسطته فانبسط فقلت له:
يا ولدي، ما حاجتك؟ ولم صحبتني؟
قال يا سيدي، قيل لي انك تعلم الكيمياء فصحبتك لا تعلم منك فقلت له: صدقت، وصدق من حدثك ولكن أخالك أن لا تقبل.
فقال لي: اقبل.
فقلت له: نظرت إلى الخلق فوجدتهم على قسمين أعداء وأحباء.
فنظرت إلى الأعداء فعلمت أنهم لا يستطيعون أن يشوكوني بشوكة لم يردني الله بها، فقطعت نظري عنهم.
ثم تعلقت بالأحباء فرأيتهم لا يستطيعون أن ينفعوني بشيء لم يردني الله به، فقطعت إياسي منهم، وتعلقت بالله تعالى، فقيل لي: انك لن تصل إلى حقيقة هذا الأمر حتى لا تشك فينا، وتيأس من غيرنا أن يعطيك غير ما قسمناه لك.
وقال مرة أخرى رحمه الله، لما سئل عن الكيمياء فقال:
أخرج الطمع من قلبك، واقطع بأسك من ربك، أن يعطيك غير ما قسم لك. وليس يدل على شعار العبد كثرة عمله، ولا مداومته على ورده، وإنما بذل على نوره عناه بربه، أو انحباسه إليه بقلبه، وتحرره من رق الطمع؟ وتحليه بحلية الورع، وبذلك تحسن الأعمال، وتزكوا الأحوال، قال الله تعالى: {أنا جعلنا ما على الأرض زينة لها، لنبلوهم أيهم أحسن عملا}. فحسن الأعمال إنما هو بالفهم عن الله.
والفهم هو ما ذكرناه من الاغتناء بالله، والاكتفاء به، والاعتماد عليه، ورفع الحوائج إليه، والدوام بين يديه، وكل ذلك من ثمرة الفهم عن الله تعالى. وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه، وتطهر من الطمع في الخلق، فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم، ورفع الهمة عنهم. وقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه البصرة فدخل جامعها فوجد القصاص يقصون فأقامهم حتى جاء إلى الحسن البصري، فقال:
يا فتى أني سائلك عن شيء، فان أجبت عنه أبقيتك، وإلا أقمتك كما أقمت أصحابك، وكان قد رأى عليه سمنا وهدايا.
فقال الحسن: سل عما شئت؟ فقال له علي رضي الله عنه: ما ملاك الدين؟ قال: الورع.
قال: فما فساد الدين؟ قال الطمع.
قال: اجلس، فمثلك من يتكلم على الناس.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله تعالى يقول:
(كنت في ابتداء امرئ بثغر الإسكندرية، جئت إلى بعض من يعرفني، فاشتريت منه حاجة بنصف درهم، ثم قلت في نفسي: لعله لا يأخذ مني، فهتف بي هاتف:
(السلامة في الدين، بترك الطمع في المخلوقين).
وسمعته يقول: صاحب الطمع لا يشبع أبدا، إلا ترى حروفه كلها مجوفة؟ الطاء والجيم؟ والعين.
فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق، ولا تذل لهم في شأن الرزق، فقد سبقت قسمته وجودك، وتقدم ثبوته ظهورك، واسمع ما قال بعض المشايخ:
أيها الرجل: ما قدر لماضغيك أن يمضغاه، فلا بد أن يمضغاه، فكله وبحك بعز ولا تأكله بذل.
اعلم أن من عرف الله وثق بضمانه، وكفالته، وانه لا يكمل فهم العبد حتى يكون بما في يدي الله أوثق منه بما في يديه وبضمان الحق أوثق منه بضمان الخلق، ويكفيك جهلا أن لا تكون كذلك.
ورأى بعضهم رجلا يلازم الجامع، ولا يخرج منه، فتعجب من ملازمته، وفكر في نفسه من أين يأكل؟
فقال له يوما: من أين تأكل؟
فقال له ذلك الرجل: أن لي صاحبا يهوديا وعدني كل يوم برغيفين، فهو يأتيني بهما.
فقال له: ذاك إذا؟
فقال له ذلك العارف: يا مسكين وثقت لي بوعد يهودي، وما وثقت بي بوعد الله سبحانه وتعالى ؟ وهو الصادق الوعد الذي لا يخلف الميعاد؟ وقد قال تعالى:
{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها}.
فاستحيا منه ذلك الرجل وذهب.
وعن آخر: انه صلى خلف إمام أياما، فقال له الإمام يوما، وقد تعجب من ملازمته المسجد، وتركه الأسباب من أين تأكل؟ فقال: قف حتى أعيد صلاتي، فإني لا أصلي خلف من شك في الله.
والحكايات في هذا كثيرة.
قيل لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه: لو أن إنسانا ادخل بيتنا وطين ذلك أبيت عليه، من أين يأتيه رزقه؟
فقال يأتيه رزقه من حيث يأتيه اجله.
فانظر هذه الحجة، ما ابهرها، وهذه البينة ما أظهرها.
وقول الشيخ رحمه الله: ومن التفكير والتدبير في تحصيله.
فالتفكر: أن تستحضر في نفسك انه لا بد لك من غذاء يقيم بنيتك والتدبير أن تقول هو من وجه كذا وكذا لا ولكن هو من وجه كذا وكذا، ويكثر ذلك، ويتردد على القلب حتى لا تدري أن كنت مصليا ماذا صليت، أو تاليا ماذا تلوت، فتتكدر عليك تلك الطاعة التي أنت فيها، وتحرم أنوارها وتمنع أسرارها.
فإذا أورد عليك ذلك، فاهدم بناءه بفأس الثقة، ودكه بوجود اليقين واعلم رحمك الله أن الله تعالى قد تولى تدبيرك من قبل أن تكون وانك أن أردت نصح نفسك لا تدبر لها، فان التدبير منك لها إضرار بها إذ ذاك مما يوجب إحالتك عليك، ويمنع إمداد اللطف أن يصل إليك، والمؤمن لا يدعه الحق سبحانه وتعالى لوجود التدبير ولا لمنازعة المقادير.
فان عرض ذلك عليك، أو خط فلا تثبت له، فان نور الإيمان لا يدعه لذلك.
{وكان حقا علينا نصر المؤمنين}.
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}.
وقول الشيخ رحمه الله تعالى: ومن الشح والبخل بعد حصوله، فهذان من العوارض بعد الحصول، وهما ينشآن عن ضعف، وعدم الثقة فحينئذ يكون الشح، ويقع البخل، وقد ذم الله تعالى الشح والبخل كليهما في كتابع العزيز فقال تعالى:
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
فمفهومه أن صاحب الشح لا فلاح له أي لا نور له والفلاح هو النور.
وقال تعالى في وصف المنافقين:
{أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم}.
وقال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.
وقال تعالى: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}.
والبخل والشح يطلق على أقسام ثلاثة:
الأول: أن تخبل ما في يدك أن تبذله في واجبات الله تعالى.
الثاني: أن تبخل له ولم يتعلق بك الوجوب على عباد الله.
الثالث: أن تبخل لنفسك أن تبذلها لله تعالى.
والبخل الأول: وهو أن تبخل فلا تؤتي الزكاة وقد خوطبت بها، أو لا تقوم بحق وقد تعين عليك، من نفقات الأبوين في فقرهما، والأولاد في فقرهم، وصغرهم، وكنفقات الزوجات.
وبالجملة: فكل حق أوجب الله عليك القيام به، فتخلفك عنه مما يطلق عليك لسان الذم، وتستحق به العقوبة، وفي ذلك جاء قوله تعالى:
{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.
قال أهل العلم: الكنز هو المال الذي لا تؤدي زكاته، فإذا أديت زكاته لا يكون كنزا، معناه لا يدخل تحت هذا الوعيد ولا يطلق عليه لسان الذم.
القسم الثاني: البخل بالبذل فيما لم يتعلق به الوجوب، كمن اخرج زكاة ماله ثم لم يبذل منه شيئا بعد ذلك، وهذا وان كان قد فعل ما أمره الله تعلى به من إخراج ما وجب عليه، فينبغي أن يقتصر عليه فان الاقتصار على الواجبات وترك نوافل الخيرات إنما هو حال الضعفاء.
فلا ينبغي للمؤمن المعتني بإصلاح شأنه مع الله تعالى أن يترك معاملة الله تعالى فيما لم يوجبه الله عليه، فانه أن كان كذلك كان حاله كمن يصلي الفرائض ولا يقوم برواتبها.
ويكفيك أيها العبد قوله تعالى فيم حكاه عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(ما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا، ولسانا وقلبا وعقلا ويدا ومؤيدا).
فقد بين سبحانه وتعالى، أن تكرار النوافل، والقيام بها يوجب العبد وجود الحب من الله تعالى، والنوافل كل ما يطلبك بها لسان إيجاب من صلاة أو صدقة أو حج أو غير ذلك.
ومثل القائم بالفرائض من الصلوات المقتصر عليها، والقائم بها، وبالنوافل أو المخرج للزكاة، المقتصر عليها، والمخرج لها، والمؤثر معها، كعبدين لسيد جعل عليهما كل يوم خراجا على كل عبد درهمين.
فأما العبد الواحد، فانه يؤتى للسيد بذلك ولا يزيد عليه شيئا، ولا يهاديه ولا يواده.
وأما العبد الآخر فانه يقوم للسيد كل يوم بما قام به صاحبه لكن يشتري من الطرف والفواكه ما يهدي إلى سيده زائدا عن خراجه، فهذا العبد لا محالة أحظى عند السيد، وأوفر نصيبا من الحب، وأقرب إلى إقبال السيد.
لأن العبد القائم بما خورج عليه غير متودد للسيد، وإنما أعطاه إشفاقا من عقوبته.
والعبد الذي أعطى لسيده ما خارجه عليه، وهاداه بعد ذلك فهو قد سلك مسلك التودد للسيد والتعرض لحبه فهو حري أن يظفر بقربه وحبه.
وإنما جعل الحق تعالى الإيجاب على العباد علما منه بما هم عليه من وجود الضعف، وبما نفوسهم متصفة به، من وجود الكسل فأوجب عليهم ما أوجب لأنه لو خيرهم فيما أوجب عليهم لم يكونوا به قائمين إلا قليلا وقليل ما هم، فأوجب عليهم وجود طاعته. وفي التحقيق: ما أوجب عليهم إلا دخول جنته، فساقهم إلى بسلاسل الإيجاب.
(عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل)
تنبيه وإعلام: اعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق تعالى جعل في كل ما أوجبه تطوعا من جنسه في أي الأنواع كان،ليكون ذلك التطوع ذلك الجنس جابرا لما عساه أن يع من الخلل في قيام العبد بالواجبات.
وكذلك جاء في الحديث ينظر في مفروض صلاة العبد فان نقص منها شئ كمل من النوافل).
فافهم رحمك الله هذا، ولاتكن مقتصرا على ما فرض الله عليك ليكن فيك ناهضة حب توجب إنكبابك على معاملة الله فيما لم يوجبه عليك.
ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لم يحصره حاصر، ولا يحزره حازر، فسبحان الفاتح للعباد باب المعاملة والمبين لهم أسباب المواصلة.
واعلم أن الحق تعالى علم أن في عباده ضعفاء وأقوياء فأوجب الواجبات وبين المحرمات.
فالضعفاء اقتصروا على الواجبات والترك للمحرمات وليس في قلوبهم من سلطان الحب، ووجود الشغف ما يحملهم على المعالي من غير إيجاب، فمثلهم كمثل العبد الذي يعلم السيد منه انه إن لم يخارجه لم يهد إليه شيئا.
فلذلك وقت سبحانه الأوراد، ووظف وظائف العبودية، وعرف ذلك بالطالع، والغارب والزوال.
وصيرورة كل شيء مثله في الصلاة، وبالحول في الأموال النامية في العين والحرث والماشية، وبوقت حصول المنفعة في الزرع.
{وآتوا حقه يوم حصاده}.
وبعشر ذي الحجة في الحج، وبشهر رمضان في الصيام.
فوظف الوظائف، ووقتها، وجعل للنفوس فيما سواها فسحة للحظوظ والسعي في الأسباب.
وأهل الله تعالى، وأهل الفهم عنه جعلوا الأوقات كلها وقتا واحدا، والعمر كله نهجا إلى الله قاصدا، فعلوا أن الوقت كله له، فلم يجعلوا منه شيئا لغيره، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله.
عليك بورد واحد، وهو إسقاط الهوى ومحبة المولى.
أبت المحبة أن تستعمل محبا إلا فيما يوافق محبوبه.
وعلموا أن الأنفاس أمانات الحق عندهم، وودائعه لديهم، فعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا هممهم لذلك.
وكما أن له الربوبية الدائمة كذلك حقوق ربوبيته عليك دائمة، فربوبيته عليك غير مؤقتة بالأوقات، فحقوق ربوبيته ينبغي أن تكون أيضا كذلك.
يقول الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
فان لكل وقت سهما في العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية.
ولنحبس عنان المقال لئلا نخرج عن غرض الكتاب.
القسم الثالث من أقسام الإيثار: وهو الإيثار بالنفس.
فهذا هو أفضل الوجوه الثلاثة، وإنما أوثر بغيره لأجله، فمن آثر الله تعالى بما أوجبه عليه قد لا يؤثره بما في يديه مما لم يوجبه عليه، ومن آثر الله تعالى بما في يديه مما لم يوجهه عليه فقد لا يؤثره بنفسه ولا يسخوا ببذلها، فان السخاء بالنفس والبذل لها من أخلاق الصديقين، وشأن أهل اليقين، الذين عرفوا الله فبذلوا له نفوسهم علما منهم، أن العبد لا يملك مع السيد وإذا كان الإيثار بالنفس هو أكمل الوجوه فيكون ابخل بها أقبح الوجوه.
فقد تبين من هذا قول الشيخ: ومن الشح والبخل بعد حصوله. على طريق الإلماح لا الاستقصاء، فان الكتاب غير موضوع لهذا المعنى.
القسم الثالث من أقسام العوارض في شأن الرزق:
فإذا ذكرنا أن العوارض التي تعرض في شأن الرزق على ثلاثة أقسام:
عوارض قبل الحصول، وعوارض في حين الحصول:
وقد تقدم ذكرهما في كلام الشيخ فيهما، وبينا نحن ذلك.
وعوارض بعد حصوله، ونفاده من الأسف والعدم عليه وداوم التطلع إليه:
فينبغي أن تطهر منها أيضا، واسمع قوله تعالى:
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}.
ومن أسف على فقد شيء، دون الله تعالى فقد نادى على نفسه بوجود الجهل، وثبات القطيعة إذ لو وجد الله لم يفقد شيئا دونه، فمن وجد الله فلا يجد شيئا دونه حتى يكون له فاقدا. وليعلم العبد أن ما فاته ليس له برزق، وما كان عنده ففقده فلس له، لأنه لو كان رزقه ما ذهب عنه إلى غيره، بل كان عارية عنده، أخذ العارية من أعارها، واسترجع الشيء من أوجده.
وكان لبعضهم ابنة عم مسماة عليه من الصغر، فلما كبر جرى ما منع زواجه إياها ثم تزوجت بزوج غيره فجاء إليه بعض أهل الفهم وقال له:
يصلح لك أن تعتذر إلى هذا الزوج الذي تزوج ابنة عمك، إذ كنت أنت المتطلع لزوجته، إذ هي زوجته في الأزل.
وكفى بالمؤمن تحذرا من الندم على ما فات قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين}.
فقد ذم الحق تعالى من يسكن للأشياء في حين وجدها، إلا تراه كيف قال: {فان أصابه خير اطمأن به}.
أي اطمأن بذلك الخير، ولو فهم لما اطمأن بشيء دون الله تعالى ولكانت طمأنينته بالله وحده، وكذلك من يحزن عليها عند فقدها، لقوله تعالى: {وإن أصابته فتنة}.
والفتنة فقد ذلك المشتهى الذي كان إليه ساكنا، {انقلب على وجهه} أي دهش عقله، وذهلت نفسه وغفل قلبه وما ذلك إلا لعدم معرفته بالله تعالى، ولو عرف الله تعالى أغناه وجوده من كل موجود، واستغنى به عن كل مفقود.
ومن فقد الله لم يجد شيئا، ومن وجده لم يفقد شيئا.
وكيف يفقد شيئا من يجد بيده ملكوت كل شيء؟
وكيف يفقد شيئا من وجد الموجد لكل شيء؟
وكيف يفقد شيئا من وجد الظاهر في كل شيء.
فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يتصف بوجود ولا بفقد، إذ لا يوجد غيره معه، لثبوت أحديته، ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا ما وجد ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان.
وإذ قد فهمت هذا فينبغي لك أيها العبد أن لا تأس على فقد شيء، وان لا تركن بوجود شيء، فان من وجد شيئا فركن إليه أو فقد شيئا فحزن عليه فقد اثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده.
وافهم ها هنا قوله عليه الصلاة والسلام:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة تعص وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
فلا تحكم في قلبك أيها المؤمن شيئا إلا حب الله ووده، فانك اشرف من أن تكون عبدا لغيره، فقد جعلك عبدا كريما فلا تكن عبدا لئيما.
وقد أبى لأهل الفهم عن الله تعالى، فهمهم، أن يركنوا لوجد أو يتطلعوا لفقد، لعبوديتهم وتصحيحا لحريتهم عما سواه.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول:
الكائن في الحال على قسمين، عبد هو في الحال بالحال، وعبد هو في الحال بالمحول.
والذي هو في الحال بالحال: هو عبد الحال الذي يفرح بها.
إذا وجدها، ويحزن عليها إذا فقدها.
وعبد هو في الحال بالمحول: فذلك عبد الله لا عبد الحال، وهو الذي لا يأس عليها إذا فقدها، ولا يفرح إذا وجدها.
فقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} أي على وجهة واحدة، فان زالت طاعته، وانفصلت موافقته، ولو فهم عنا لعبدنا على كل حالة وفي كل وجهة، كما انه ربك تعالى في كل حال كذلك، فكن له عبدا في جميع الأحوال.
فقوله سبحانه وتعالى: {فان أصابه خير اطمأن به} أي إن أصابه خير مما يلائم نفسه هو في نظره خير، وقد يكون شرا في نفس الأمر.
{وان أصابته فتنة انقلب} أي فقد ذلك الخير الذي كان به مطمئنا، وسماه فتنة لأن في الفقد اختبار إيمان المؤمن وفي الفقد يظهر أحوال الرجال.
فكم من ظان أن غناه بالله، وإنما غناه بوجود أسبابه، وتعدادات اكتسابه؟
وكم من ظان أن انسه بربه، وإنما انسه بحاله، دليل ذلك فقدانه لأنسه عند فقدان حال. فلو كان انسه بربه لدام انسه بدوامه، ولبقي ببقائه.
وقوله تعالى: {خسر الدنيا والآخرة}.
خسر الدنيا بفقدان ما أراد منها، وخسر الآخرة، لأنه لم يعمل لها، فقد فاته ما طلبه وهو ما طلبنا حتى نكون له، فافهم.
فصل: واعلم انه يرد في شأن الرزق أمور ويعرض فيه عوارض وقد ذكر الشيخ رحمه الله تعالى كثيرا منها بقوله:
{وسخر لي أمر هذا الرزق، واعصمني من الحرص والتعب في طلبه، ومن شغل القلب وتعلق الهم به، ومن الذل للخلق بسببه، ومن التفكير والتدبير في تحصيله، ومن الشح والبخل بعد حصوله.
وليس العوارض الواردة في شأن الرزق بمنحصرة حتى تستوفى فلنتكلم على ما قاله الشيخ رحمه الله:
فالعم أن للعبد بالنسبة إلى الرزق، ثلاثة أحوال:
حال قبل أن يرزقه، وهي حالة السعي.
وحال بعد ذلك، وهي حالة الحصول.
وحال بعد انقضائه، وهي الحالة الثالثة.
فأما ما يعرض قبل حصوله: فالحرص والتعب في طلبه، وشغل القلب وتعلق الهم به، والذل للخلق بسببه، والتكفير والتدبير في تحصيله.
فأما الحرص: فهو الرغبة القائمة بالنفس في التحصيل له، والانكباب على ذلك، وهو ينشأ عن فقدان الثقة، وضعف اليقين: وهما ناشئان عن فقدان النور، وفقدان النور ناشئ عن وجود الحجبة.
إذ لو كان القلب بأنوار المشاهدة معمورا، وبمنن الله مغمورا لم تطرقه طوارق الحرص ولو انبسط نور اليقين على القلب لكشف له عن سابق القسمة فلم يمكنه الحرص، وعلم العبد أن له عند الله قسمة لا بد أن يوصلها إليه.
وأما التعب في طلبه: فأما أن يكون تعب الظواهر ويكون الاستعاذة منه إلى الله تعالى لأنه إذا استولى على الطالب للرزق التعب في الظاهر شغله ذلك عن القيام بالأوامر.
والرزق مع الراحة فيه إعانة على التفرغ إلى طاعة الله تعالى والقيام بخدمته.
وان كان التعب هو تعب القلوب لا تعب الظواهر في أولى بان يستعاذ منه وذلك بان القلوب يتعبها تكلفها في طلب الرزق والفكرة فيه ويثقلها ما حملت من ذلك ولا راحة لها إلا بالتوكل على الله.
لان التوكل على الله وضع أثقاله والله تعالى يحملها عنه لقوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه: (ومن شغل القلب وتعلق الهمم به).
فشغل القلب بأمر الرزق قاطع عظيم حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
(أكثر ما حجب الخلق عن الله تعالى شيئان:
هم الرزق وخوف الخلق.
وهم الرزق اشد الحجابين وذلك: أن أكثر الناس قد يخلوا من هم خوف الخلق ولا يخلو من هم الرزق إلا قليل لا سيما وشاهد الفاقة قائم بوجودك وأنت مفتقر إلى ما يقيم بنيتك ويشد قوتك.
قوله: وتعلق الهم به أي تعلق الهمة بأمر الرزق توجها واستغراقا حتى لا يبقى فيه متسع لغيره، وهذه حالة توجب القطيعة وتكشف أنوار الوصلة تنادي على صاحبها بخراب قلبه من نور اليقين وفلسفة من القوة والتمكين.
وقوله: ومن الذل للخلق بسببه: فاعلم أن من ضعف يقينه، وقل من قسمة العقل نصيبه فالذلة لازمة له: لطمعه في الخلق، ولعدم ثقته بصدق وعد، فذل للخلق متملقا ولج إليها متعلقا، وذلك عقوبتها الغفلة عن الله تعالى، ولعذاب الآخرة اشد.
ولو صح إيمانه وثقته بالله كان لذلك عزيزا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
فعزة المؤمن بربه لا يعتز بغيره لعلمه أن العزة لله جميعا وانه العزيز فلا عزيز معه والمعز فلا معز معه، فأعزته الثقة ونصره التوكل فلن يهن لصدق ثقته بربه في قسمته، ولم يحزن لاعتماده عليه في وجود منته سامعا قوله تعالى:
{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون أن كنتم مؤمنين}.
فعزة المؤمن بترك الطمع في الخلق، ووجود الثقة بالملك الحق أبى له إيمانه أن يرفع حاجته لغير ربه أو أن يصرف لما سواه قلبه ولذلك قال بعضهم:
حرام على من وحد الله ربه *** وافرده أن يجتدي أحدا رفدا
ويا صاحبي قف لي مع الحق وقفة *** أموت بها وجدا وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها*** فهذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
ومن حرره الله من رق الطمع، وأعزه بوجود الورع فقد أجزل منته، وكمل عليه همته.
واعلم أن الله قد كساك أيها المؤمن خلعا عديدة منها:
خلعة الإيمان والمعرفة والطاعة والسنة فلا تدنسها بالطمع في المخلوقين، وبالاستناد إلى غير رب العالمين.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فقال لي:
يا علي، طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس.
فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ فقال: اعلم أن الله تعالى كساك حلة الإيمان وحلة المعرفة، وحلة التوحيد وحلة المحبة.
قال: ففهمت حينئذ قوله تعالى: {وثيابك فطهر}.
فمن عرف الله صغر لديه كل شيء ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئا ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن اسلم لله قل ما يعصيه، وان عصاه اعتذر إليه، وان اعتذر إليه قبل عذره.
واعلم رحمك الله أن رفع الهمة بسالكي طريقي الآخرة عن الخلق وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحلي للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس.
ومن خلعت عليه خلعة فحفظها وصانها، فحري أن تدام له، وان لا تسلب عنه.
والمدنس لخلع المواهب فحري أن لا تترك له.
فلا تدنس أيها الأخ إيمانك بطمعك في المخلوقين، ولا تجعلن اعتمادك إلا على رب العالمين، فان اعتززت بالله دام بدوام من اعتززت به وان اعتززت بغيره فلا بقاء لعزك إذ لا بقاء لمن أنت به معتز وأنشد لي بعض الفضلاء لنفسه:
ليكن بربك كل عزك *** يستقر ويثبت
فان اعتززت بمن يموت *** فان عزك ميت
ودخل إنسان على بعض العارفين وهو يبكي فقال: ما شأنك؟ قال: مات أستاذي.
فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟
ويقال لك: إذا اعتززت بغير الله فقدته، وإذا استندت إلى غيره عدمته.
{وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا اله إلا هو وسع كل شيء علما}. وكن أيها العبد إبراهيميا فقد فال أبوك إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه {لا أحب الآفلين} وما سوى الله تعالى آفل إما وجودا وإما إمكانا.
وقد قال الله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، فواجب على المؤمن أن يتبع ملة إبراهيم.
وملة إبراهيم، رفع الهمة عن الخلق، فانه يوم زج به في المنجنيق، تعرض له جبرائيل عليه السلام، فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى. قال: سله؟ قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
فانظر كيف رفع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه همته عن الخلق، ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبرائيل، ولا احتال على السؤال من الله تعالى، بل رأى الحق اقرب إليه جبرائيل ومن سؤاله فلذلك سلمه من النمرود ونكاله، وأنعم إليه بنواله وأفضاله وخصه بوجود إقباله.
ومن ملة إبراهيم، معاداة كل ما شغل عن الله، وصرف الهمة بالرد إلى الله تعالى لقوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.
والغنى أن أردت الدلالة عليه، فهو في اليأس في من الناس، ولقد قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
أيست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا أيأس من نفع غيري لنفسي؟ ورجوت لغيري؟ فكيف لا أرجوه لنفسي؟
وهذا هو الكيمياء والإكسير الذي من حصل له غنى لا فاقة فيه، وعزل لا ذل معه، واتفاق لا نفاد له، وهو كيمياء أهل الفهم عن الله تعالى.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: صحبني إنسان وكان ثقيلا علي فبسطته فانبسط فقلت له:
يا ولدي، ما حاجتك؟ ولم صحبتني؟
قال يا سيدي، قيل لي انك تعلم الكيمياء فصحبتك لا تعلم منك فقلت له: صدقت، وصدق من حدثك ولكن أخالك أن لا تقبل.
فقال لي: اقبل.
فقلت له: نظرت إلى الخلق فوجدتهم على قسمين أعداء وأحباء.
فنظرت إلى الأعداء فعلمت أنهم لا يستطيعون أن يشوكوني بشوكة لم يردني الله بها، فقطعت نظري عنهم.
ثم تعلقت بالأحباء فرأيتهم لا يستطيعون أن ينفعوني بشيء لم يردني الله به، فقطعت إياسي منهم، وتعلقت بالله تعالى، فقيل لي: انك لن تصل إلى حقيقة هذا الأمر حتى لا تشك فينا، وتيأس من غيرنا أن يعطيك غير ما قسمناه لك.
وقال مرة أخرى رحمه الله، لما سئل عن الكيمياء فقال:
أخرج الطمع من قلبك، واقطع بأسك من ربك، أن يعطيك غير ما قسم لك. وليس يدل على شعار العبد كثرة عمله، ولا مداومته على ورده، وإنما بذل على نوره عناه بربه، أو انحباسه إليه بقلبه، وتحرره من رق الطمع؟ وتحليه بحلية الورع، وبذلك تحسن الأعمال، وتزكوا الأحوال، قال الله تعالى: {أنا جعلنا ما على الأرض زينة لها، لنبلوهم أيهم أحسن عملا}. فحسن الأعمال إنما هو بالفهم عن الله.
والفهم هو ما ذكرناه من الاغتناء بالله، والاكتفاء به، والاعتماد عليه، ورفع الحوائج إليه، والدوام بين يديه، وكل ذلك من ثمرة الفهم عن الله تعالى. وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه، وتطهر من الطمع في الخلق، فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم، ورفع الهمة عنهم. وقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه البصرة فدخل جامعها فوجد القصاص يقصون فأقامهم حتى جاء إلى الحسن البصري، فقال:
يا فتى أني سائلك عن شيء، فان أجبت عنه أبقيتك، وإلا أقمتك كما أقمت أصحابك، وكان قد رأى عليه سمنا وهدايا.
فقال الحسن: سل عما شئت؟ فقال له علي رضي الله عنه: ما ملاك الدين؟ قال: الورع.
قال: فما فساد الدين؟ قال الطمع.
قال: اجلس، فمثلك من يتكلم على الناس.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله تعالى يقول:
(كنت في ابتداء امرئ بثغر الإسكندرية، جئت إلى بعض من يعرفني، فاشتريت منه حاجة بنصف درهم، ثم قلت في نفسي: لعله لا يأخذ مني، فهتف بي هاتف:
(السلامة في الدين، بترك الطمع في المخلوقين).
وسمعته يقول: صاحب الطمع لا يشبع أبدا، إلا ترى حروفه كلها مجوفة؟ الطاء والجيم؟ والعين.
فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق، ولا تذل لهم في شأن الرزق، فقد سبقت قسمته وجودك، وتقدم ثبوته ظهورك، واسمع ما قال بعض المشايخ:
أيها الرجل: ما قدر لماضغيك أن يمضغاه، فلا بد أن يمضغاه، فكله وبحك بعز ولا تأكله بذل.
اعلم أن من عرف الله وثق بضمانه، وكفالته، وانه لا يكمل فهم العبد حتى يكون بما في يدي الله أوثق منه بما في يديه وبضمان الحق أوثق منه بضمان الخلق، ويكفيك جهلا أن لا تكون كذلك.
ورأى بعضهم رجلا يلازم الجامع، ولا يخرج منه، فتعجب من ملازمته، وفكر في نفسه من أين يأكل؟
فقال له يوما: من أين تأكل؟
فقال له ذلك الرجل: أن لي صاحبا يهوديا وعدني كل يوم برغيفين، فهو يأتيني بهما.
فقال له: ذاك إذا؟
فقال له ذلك العارف: يا مسكين وثقت لي بوعد يهودي، وما وثقت بي بوعد الله سبحانه وتعالى ؟ وهو الصادق الوعد الذي لا يخلف الميعاد؟ وقد قال تعالى:
{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها}.
فاستحيا منه ذلك الرجل وذهب.
وعن آخر: انه صلى خلف إمام أياما، فقال له الإمام يوما، وقد تعجب من ملازمته المسجد، وتركه الأسباب من أين تأكل؟ فقال: قف حتى أعيد صلاتي، فإني لا أصلي خلف من شك في الله.
والحكايات في هذا كثيرة.
قيل لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه: لو أن إنسانا ادخل بيتنا وطين ذلك أبيت عليه، من أين يأتيه رزقه؟
فقال يأتيه رزقه من حيث يأتيه اجله.
فانظر هذه الحجة، ما ابهرها، وهذه البينة ما أظهرها.
وقول الشيخ رحمه الله: ومن التفكير والتدبير في تحصيله.
فالتفكر: أن تستحضر في نفسك انه لا بد لك من غذاء يقيم بنيتك والتدبير أن تقول هو من وجه كذا وكذا لا ولكن هو من وجه كذا وكذا، ويكثر ذلك، ويتردد على القلب حتى لا تدري أن كنت مصليا ماذا صليت، أو تاليا ماذا تلوت، فتتكدر عليك تلك الطاعة التي أنت فيها، وتحرم أنوارها وتمنع أسرارها.
فإذا أورد عليك ذلك، فاهدم بناءه بفأس الثقة، ودكه بوجود اليقين واعلم رحمك الله أن الله تعالى قد تولى تدبيرك من قبل أن تكون وانك أن أردت نصح نفسك لا تدبر لها، فان التدبير منك لها إضرار بها إذ ذاك مما يوجب إحالتك عليك، ويمنع إمداد اللطف أن يصل إليك، والمؤمن لا يدعه الحق سبحانه وتعالى لوجود التدبير ولا لمنازعة المقادير.
فان عرض ذلك عليك، أو خط فلا تثبت له، فان نور الإيمان لا يدعه لذلك.
{وكان حقا علينا نصر المؤمنين}.
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}.
وقول الشيخ رحمه الله تعالى: ومن الشح والبخل بعد حصوله، فهذان من العوارض بعد الحصول، وهما ينشآن عن ضعف، وعدم الثقة فحينئذ يكون الشح، ويقع البخل، وقد ذم الله تعالى الشح والبخل كليهما في كتابع العزيز فقال تعالى:
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
فمفهومه أن صاحب الشح لا فلاح له أي لا نور له والفلاح هو النور.
وقال تعالى في وصف المنافقين:
{أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم}.
وقال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.
وقال تعالى: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}.
والبخل والشح يطلق على أقسام ثلاثة:
الأول: أن تخبل ما في يدك أن تبذله في واجبات الله تعالى.
الثاني: أن تبخل له ولم يتعلق بك الوجوب على عباد الله.
الثالث: أن تبخل لنفسك أن تبذلها لله تعالى.
والبخل الأول: وهو أن تبخل فلا تؤتي الزكاة وقد خوطبت بها، أو لا تقوم بحق وقد تعين عليك، من نفقات الأبوين في فقرهما، والأولاد في فقرهم، وصغرهم، وكنفقات الزوجات.
وبالجملة: فكل حق أوجب الله عليك القيام به، فتخلفك عنه مما يطلق عليك لسان الذم، وتستحق به العقوبة، وفي ذلك جاء قوله تعالى:
{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.
قال أهل العلم: الكنز هو المال الذي لا تؤدي زكاته، فإذا أديت زكاته لا يكون كنزا، معناه لا يدخل تحت هذا الوعيد ولا يطلق عليه لسان الذم.
القسم الثاني: البخل بالبذل فيما لم يتعلق به الوجوب، كمن اخرج زكاة ماله ثم لم يبذل منه شيئا بعد ذلك، وهذا وان كان قد فعل ما أمره الله تعلى به من إخراج ما وجب عليه، فينبغي أن يقتصر عليه فان الاقتصار على الواجبات وترك نوافل الخيرات إنما هو حال الضعفاء.
فلا ينبغي للمؤمن المعتني بإصلاح شأنه مع الله تعالى أن يترك معاملة الله تعالى فيما لم يوجبه الله عليه، فانه أن كان كذلك كان حاله كمن يصلي الفرائض ولا يقوم برواتبها.
ويكفيك أيها العبد قوله تعالى فيم حكاه عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(ما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا، ولسانا وقلبا وعقلا ويدا ومؤيدا).
فقد بين سبحانه وتعالى، أن تكرار النوافل، والقيام بها يوجب العبد وجود الحب من الله تعالى، والنوافل كل ما يطلبك بها لسان إيجاب من صلاة أو صدقة أو حج أو غير ذلك.
ومثل القائم بالفرائض من الصلوات المقتصر عليها، والقائم بها، وبالنوافل أو المخرج للزكاة، المقتصر عليها، والمخرج لها، والمؤثر معها، كعبدين لسيد جعل عليهما كل يوم خراجا على كل عبد درهمين.
فأما العبد الواحد، فانه يؤتى للسيد بذلك ولا يزيد عليه شيئا، ولا يهاديه ولا يواده.
وأما العبد الآخر فانه يقوم للسيد كل يوم بما قام به صاحبه لكن يشتري من الطرف والفواكه ما يهدي إلى سيده زائدا عن خراجه، فهذا العبد لا محالة أحظى عند السيد، وأوفر نصيبا من الحب، وأقرب إلى إقبال السيد.
لأن العبد القائم بما خورج عليه غير متودد للسيد، وإنما أعطاه إشفاقا من عقوبته.
والعبد الذي أعطى لسيده ما خارجه عليه، وهاداه بعد ذلك فهو قد سلك مسلك التودد للسيد والتعرض لحبه فهو حري أن يظفر بقربه وحبه.
وإنما جعل الحق تعالى الإيجاب على العباد علما منه بما هم عليه من وجود الضعف، وبما نفوسهم متصفة به، من وجود الكسل فأوجب عليهم ما أوجب لأنه لو خيرهم فيما أوجب عليهم لم يكونوا به قائمين إلا قليلا وقليل ما هم، فأوجب عليهم وجود طاعته. وفي التحقيق: ما أوجب عليهم إلا دخول جنته، فساقهم إلى بسلاسل الإيجاب.
(عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل)
تنبيه وإعلام: اعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق تعالى جعل في كل ما أوجبه تطوعا من جنسه في أي الأنواع كان،ليكون ذلك التطوع ذلك الجنس جابرا لما عساه أن يع من الخلل في قيام العبد بالواجبات.
وكذلك جاء في الحديث ينظر في مفروض صلاة العبد فان نقص منها شئ كمل من النوافل).
فافهم رحمك الله هذا، ولاتكن مقتصرا على ما فرض الله عليك ليكن فيك ناهضة حب توجب إنكبابك على معاملة الله فيما لم يوجبه عليك.
ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لم يحصره حاصر، ولا يحزره حازر، فسبحان الفاتح للعباد باب المعاملة والمبين لهم أسباب المواصلة.
واعلم أن الحق تعالى علم أن في عباده ضعفاء وأقوياء فأوجب الواجبات وبين المحرمات.
فالضعفاء اقتصروا على الواجبات والترك للمحرمات وليس في قلوبهم من سلطان الحب، ووجود الشغف ما يحملهم على المعالي من غير إيجاب، فمثلهم كمثل العبد الذي يعلم السيد منه انه إن لم يخارجه لم يهد إليه شيئا.
فلذلك وقت سبحانه الأوراد، ووظف وظائف العبودية، وعرف ذلك بالطالع، والغارب والزوال.
وصيرورة كل شيء مثله في الصلاة، وبالحول في الأموال النامية في العين والحرث والماشية، وبوقت حصول المنفعة في الزرع.
{وآتوا حقه يوم حصاده}.
وبعشر ذي الحجة في الحج، وبشهر رمضان في الصيام.
فوظف الوظائف، ووقتها، وجعل للنفوس فيما سواها فسحة للحظوظ والسعي في الأسباب.
وأهل الله تعالى، وأهل الفهم عنه جعلوا الأوقات كلها وقتا واحدا، والعمر كله نهجا إلى الله قاصدا، فعلوا أن الوقت كله له، فلم يجعلوا منه شيئا لغيره، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله.
عليك بورد واحد، وهو إسقاط الهوى ومحبة المولى.
أبت المحبة أن تستعمل محبا إلا فيما يوافق محبوبه.
وعلموا أن الأنفاس أمانات الحق عندهم، وودائعه لديهم، فعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا هممهم لذلك.
وكما أن له الربوبية الدائمة كذلك حقوق ربوبيته عليك دائمة، فربوبيته عليك غير مؤقتة بالأوقات، فحقوق ربوبيته ينبغي أن تكون أيضا كذلك.
يقول الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
فان لكل وقت سهما في العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية.
ولنحبس عنان المقال لئلا نخرج عن غرض الكتاب.
القسم الثالث من أقسام الإيثار: وهو الإيثار بالنفس.
فهذا هو أفضل الوجوه الثلاثة، وإنما أوثر بغيره لأجله، فمن آثر الله تعالى بما أوجبه عليه قد لا يؤثره بما في يديه مما لم يوجبه عليه، ومن آثر الله تعالى بما في يديه مما لم يوجهه عليه فقد لا يؤثره بنفسه ولا يسخوا ببذلها، فان السخاء بالنفس والبذل لها من أخلاق الصديقين، وشأن أهل اليقين، الذين عرفوا الله فبذلوا له نفوسهم علما منهم، أن العبد لا يملك مع السيد وإذا كان الإيثار بالنفس هو أكمل الوجوه فيكون ابخل بها أقبح الوجوه.
فقد تبين من هذا قول الشيخ: ومن الشح والبخل بعد حصوله. على طريق الإلماح لا الاستقصاء، فان الكتاب غير موضوع لهذا المعنى.
القسم الثالث من أقسام العوارض في شأن الرزق:
فإذا ذكرنا أن العوارض التي تعرض في شأن الرزق على ثلاثة أقسام:
عوارض قبل الحصول، وعوارض في حين الحصول:
وقد تقدم ذكرهما في كلام الشيخ فيهما، وبينا نحن ذلك.
وعوارض بعد حصوله، ونفاده من الأسف والعدم عليه وداوم التطلع إليه:
فينبغي أن تطهر منها أيضا، واسمع قوله تعالى:
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}.
ومن أسف على فقد شيء، دون الله تعالى فقد نادى على نفسه بوجود الجهل، وثبات القطيعة إذ لو وجد الله لم يفقد شيئا دونه، فمن وجد الله فلا يجد شيئا دونه حتى يكون له فاقدا. وليعلم العبد أن ما فاته ليس له برزق، وما كان عنده ففقده فلس له، لأنه لو كان رزقه ما ذهب عنه إلى غيره، بل كان عارية عنده، أخذ العارية من أعارها، واسترجع الشيء من أوجده.
وكان لبعضهم ابنة عم مسماة عليه من الصغر، فلما كبر جرى ما منع زواجه إياها ثم تزوجت بزوج غيره فجاء إليه بعض أهل الفهم وقال له:
يصلح لك أن تعتذر إلى هذا الزوج الذي تزوج ابنة عمك، إذ كنت أنت المتطلع لزوجته، إذ هي زوجته في الأزل.
وكفى بالمؤمن تحذرا من الندم على ما فات قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين}.
فقد ذم الحق تعالى من يسكن للأشياء في حين وجدها، إلا تراه كيف قال: {فان أصابه خير اطمأن به}.
أي اطمأن بذلك الخير، ولو فهم لما اطمأن بشيء دون الله تعالى ولكانت طمأنينته بالله وحده، وكذلك من يحزن عليها عند فقدها، لقوله تعالى: {وإن أصابته فتنة}.
والفتنة فقد ذلك المشتهى الذي كان إليه ساكنا، {انقلب على وجهه} أي دهش عقله، وذهلت نفسه وغفل قلبه وما ذلك إلا لعدم معرفته بالله تعالى، ولو عرف الله تعالى أغناه وجوده من كل موجود، واستغنى به عن كل مفقود.
ومن فقد الله لم يجد شيئا، ومن وجده لم يفقد شيئا.
وكيف يفقد شيئا من يجد بيده ملكوت كل شيء؟
وكيف يفقد شيئا من وجد الموجد لكل شيء؟
وكيف يفقد شيئا من وجد الظاهر في كل شيء.
فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يتصف بوجود ولا بفقد، إذ لا يوجد غيره معه، لثبوت أحديته، ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا ما وجد ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان.
وإذ قد فهمت هذا فينبغي لك أيها العبد أن لا تأس على فقد شيء، وان لا تركن بوجود شيء، فان من وجد شيئا فركن إليه أو فقد شيئا فحزن عليه فقد اثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده.
وافهم ها هنا قوله عليه الصلاة والسلام:
(تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة تعص وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
فلا تحكم في قلبك أيها المؤمن شيئا إلا حب الله ووده، فانك اشرف من أن تكون عبدا لغيره، فقد جعلك عبدا كريما فلا تكن عبدا لئيما.
وقد أبى لأهل الفهم عن الله تعالى، فهمهم، أن يركنوا لوجد أو يتطلعوا لفقد، لعبوديتهم وتصحيحا لحريتهم عما سواه.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول:
الكائن في الحال على قسمين، عبد هو في الحال بالحال، وعبد هو في الحال بالمحول.
والذي هو في الحال بالحال: هو عبد الحال الذي يفرح بها.
إذا وجدها، ويحزن عليها إذا فقدها.
وعبد هو في الحال بالمحول: فذلك عبد الله لا عبد الحال، وهو الذي لا يأس عليها إذا فقدها، ولا يفرح إذا وجدها.
فقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} أي على وجهة واحدة، فان زالت طاعته، وانفصلت موافقته، ولو فهم عنا لعبدنا على كل حالة وفي كل وجهة، كما انه ربك تعالى في كل حال كذلك، فكن له عبدا في جميع الأحوال.
فقوله سبحانه وتعالى: {فان أصابه خير اطمأن به} أي إن أصابه خير مما يلائم نفسه هو في نظره خير، وقد يكون شرا في نفس الأمر.
{وان أصابته فتنة انقلب} أي فقد ذلك الخير الذي كان به مطمئنا، وسماه فتنة لأن في الفقد اختبار إيمان المؤمن وفي الفقد يظهر أحوال الرجال.
فكم من ظان أن غناه بالله، وإنما غناه بوجود أسبابه، وتعدادات اكتسابه؟
وكم من ظان أن انسه بربه، وإنما انسه بحاله، دليل ذلك فقدانه لأنسه عند فقدان حال. فلو كان انسه بربه لدام انسه بدوامه، ولبقي ببقائه.
وقوله تعالى: {خسر الدنيا والآخرة}.
خسر الدنيا بفقدان ما أراد منها، وخسر الآخرة، لأنه لم يعمل لها، فقد فاته ما طلبه وهو ما طلبنا حتى نكون له، فافهم.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى